تأثير البيئة والسلطة- تشكيل الهوية والذاكرة والمشاعر
المؤلف: علي بن محمد الرباعي09.17.2025

في الغالب، يأتي كل فرد منا إلى هذا العالم وله أب وأم على قيد الحياة، يعيشان سويًا أو ضمن نطاق اجتماعي ضيق أو واسع. وكما أن الرضيع يقتات بفطرته من حليب أمه الذي يقوي عظامه، وينمي لحمه، ويهيئ أمعائه، فإنه أيضًا يستقي من محيطه عادات، وتقاليد، وسلوكيات، وقيم أخلاقية لا يمكن حصرها. جميعنا نتذكر مقولة ابن خلدون الشهيرة: "الإنسان ابن بيئته"، بما في ذلك التضاريس والمناخات التي تؤثر بشكل عميق في شخصية الإنسان وتشكل وعيه.
من أبرز الذكريات التي تحتفظ بها الأجيال في مناطق مختلفة، "هيبة الأب" كنموذج أولي للسلطات التي غالبًا ما نمتثل لها، وأحيانًا نثور عليها. وفي بعض الأحيان النادرة، تكون الهيبة والسلطة في يد الأم، خاصة عندما يختار الأب السلامة وتجنب المشاكل. لطالما تفوقت بعض السيدات في سلطتهن وقسوتهن على سلطة وقسوة الآباء، وكنّ قادرات على تولي المسؤولية بجدارة.
في المدرسة، تتسع دائرة السلطات لتشمل سلطة المحضر الذي كان يذهب إلى منزل الطالب المتغيب ويحمله على كتفه أو يسحبه إلى المدرسة عنوة. وهناك يتحدد مصيره ونصيبه. تتسع وتنكمش محيطات السلطات هذه تبعًا لوداعة المدير والوكيل والمعلمين أو شراستهم. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك سلطة الجار، وإمام المسجد، والعريفة، أو العمدة، الذين مارسوا أشكالًا من القمع، ربما بالباطل ودون وجه حق، دون أن يتوقعوا أن الشخص المقموع سيتحول إلى كائن مشوه من الداخل، وقامع بدوره.
من الطبيعي أن تأتي مرحلة العمل، والتي ليست دائمًا مريحة أو موفقة، مما يزيد الأمور تعقيدًا. يتبع ذلك الزواج، الذي قد يؤدي إلى تفاقم صور الضغط النفسي والمتاعب الوجدانية. إن العجز عن الوفاء بالتزامات تفوق طاقة الإنسان يسبب ألمًا معنويًا عميقًا، ولكل ألم بصمة خاصة تنطبع في الوعي واللاوعي، وتظهر لاحقًا في ردود أفعال غير متوقعة وغير متوازنة.
لا شك أن المعاناة هي أسوأ ما يواجهه الإنسان في حياته، فهي تترك ندوبًا لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. بعض الناس يعانون من ضنك العيش، أي الفقر، أو البخل الشديد من بعض الآباء. وقد يعانون من اليتم، والإهانة، والتسلط، بالإضافة إلى الشعور بالدونية في أسوأ صوره، نتيجة لتطبيق بعض المكونات لمعايير الفرز والتمييز الاجتماعي. لا يمكنني أن أنسى سياط الطفولة التي كانت تستخدم للتحفيز على الاستيقاظ والعمل، بسبب الظروف الاقتصادية ومتطلبات الإنتاج. من كل هذه التجارب، وأكثر منها بكثير، تتشكل هويتنا، وذوقنا، وذاكرتنا، ومشاعرنا.
أنا لا أنحاز إلى أولئك الذين يصفون ضحايا البيئات القاسية والمتسلطة بأنهم غير أسوياء، بل أرى أن ظروفهم كانت غير سوية. بالطبع، ليسوا جميعًا متشابهين، فمنهم من صقلته الخشونة ليصبح أرق وألطف من النسيم، وأرقى وأسمى من سحب السماء. ولكني أتفهم وأعذر أولئك الذين ما زالت آثار الظلم والقسوة عالقة في قلوبهم.
لا شك أن تعب القلب يقتل الضمير، وإخفاق العاطفة وانكساراتها، وبؤس الشباب يخلق نماذج بشرية مشوهة، مثل الشرس، واللص، والنفعي، والعدواني، والمتآمر، والغشاش، والخائن، وغيرهم ممن يعانون أمراضًا معنوية يقف الطب الحديث عاجزًا أمامها، بل يعجز أو يصعب عليه تفسير أسبابها.
بالطبع، لا يمكن التغلب على قسوة الماضي البائس بارتداء الملابس الفاخرة أو امتلاك الكثير من المال، فالوفرة المادية لا تخفف من معاناة الروح. قد يمثل التدين المبني على العلم والفهم طوق النجاة، وقد يصبح التعليم المتميز ملاذًا آمنًا، وتصبح المعرفة والخبرات ميناءً مطمئنًا. وقد تصبح الثقافة، والفنون، والأصدقاء لاحقًا، مطببات، وبلسمًا ينزع الكثير من أشواك الغلظة ويخفف ثقل الروح، إلا أنها لا تشفي جميع الجراح العميقة ولا تمحو كل آثارها.
من رحمة الله بالأجيال أنه هيأ لها في المنعطفات الخطرة محطات هادئة، مثل جارة حنون، أو جدة نورانية، أو جد، أو خال، أو خالة، أو عمة كرماء، يسحبون عن سطح القلب الأذى، كما يلتقط المزارع عن الماء الشوائب. دولتنا، أعزها الله، كرمت وقدرت مكانة الناس، ولها الفضل في الانتقال من البؤس إلى الرخاء، وربما قاربت بين الطبقات من خلال الرواتب والإعانات والتحسينات، فجاءت أزمنة فاقت التوقعات، وشملت الجميع، بما في ذلك الإفراط في الكرم والسخاء غير المعهود. عندما قامت الدولة بواجبها وقدمت ما عليها، قصدت الرفق بالناس وتمكينهم من حياة مريحة، إلا أنها لم تطمح، ولم تشرعن، ولم تؤيد الإسراف والتباهي، ولن تبارك المبالغة والتفاخر أو عادات الجاهلية.
تنويه: إذا لم تفدنا جرعات علاج مشاعرنا وأخلاقنا (من عبادات، وتعلم، وخطب، ومواعظ، وخبرات) ولم تظهر علينا آثار التعافي، فمن الطبيعي أن هناك خللًا أو خطأ أو غشًا في الجرعات، أو فيمن تلقاها.